لماذا عاشوراء
الاستاذ حسين مزهر حمادي
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
سؤال يلمح به بعض الناس ويصرح به اخرون، انه لم هذا الالحاح على استنكار واقعة الطف والوقوف على عاشوراء في كل عام ؟ وتجديد تلك الحادثة التي عفا عليها الدهر منذ الاف السنين ؟ وما الجدوى من ذلك ؟
وقبل ان تجيب على مثل هذه الاسئلة لابد لنا اولا من بيان موقف العقل والشرع من الحادثة ـ اية حادثة كانت ـ وتدوينها واستذكارها ليتسنى لنا بعد ذلك استيضاح المشكلة من هذه الاسئلة ودفع اللبس والجهل الحاصلين لدا السائل .
اما موقف العقل ، فقد دأب الانسان منذ القدم ان يدون الاحداث التي تمر عليه ، وخصوصا تلك التي لها اثر كبير في مسيرة حياته ، حتى اصبح هذا الامر مبداً عقلانياً سار عليه البشر قاطبتا ، ودراسة التاريخ تعطينا الامثلة الكثيرة ، هذا ما يتعلق بالتدوين ، واما استذكار الحوادث والوقائع الماضية فقد اضحى ـ ايضا ـ مبداً عقلانياً سارت عليه الانسانية على مر العصور ، فكان لكل امة او شعب او تراث زاخر بالحوادث والوقائع يتناقلها الابناء عن الاباء وتتوارثها الاجيال ولم نرَ احداً من البشر انكر ذلك العمل او عده منافيا للعقل وخارجا عن المالوف بل على العكس قد عد من المفاخر التي تعتز بها كل امة وتراثها الذي تستمد منه البقاء والحياة ، اذان في الاستذكار لذلك الماضي بكل افراحه واتراحه ما اثبت جدواه وفعاليته في مر الاجيال الحاضرة والقادمة بالحيوية والنشاط بكل اشكاله لان فيه نتائج الصراع الانساني بين النقيضين الازليين ( الخير والشر ) ومصادقتهما عبر الزمن ، وتجليات ذلك الصراع في صورة واقعية مكثفة ومعبرة تتحول ياستمرار ـ وباطراد مع تجديد الذكرى واستحضارها ـ جرعة وقائية ضد اي مرض او وباء ، ودرعا حصينة ضد اي تعد او انتهاك ، ومن هذا المطلق نجد العالم اليوم على الرغم من التطور التكنلوجي الذي بلغة ، مازال يستذكر ماضيه ويستحضره ليستلهم منه الدروس والعبر ، وخير مثال على ذلك ( اليابان ) اذ يحتفل شعبه في كل عام بذكرى ( هيروشيما ) تلك المدينة التي دمرتها الولايات المتحدة الاميركية حينما القيت عليها القنبلة الذرية ـ او اخر الحرب العالميه الثانية ـ فراح ضحيتها عشرات الآلاف من الابرياء في مجزرة عكست وحشية ابن ادم حينما ينسلخ ينسلخ عن انسانيتة ، فتدون الحدث واستذكاه اذن وخصوصا ، المؤلم والمؤثر ـ سيرة عقلانية ونهج واتبعه العقل بل وحض عليه .
اما الشرع الاسلامي فموقفه واضح وجلي اتجاه الحادثة التاريخية ، ويمكن التعرف عليه من خلال القران الكريم الذي حفل بالاحداث والوقائع ، وخصوصا تلك التي سفكت بها الدماء ظلما جورا ، فقد دون في ذلك الكتاب البين اول جريمة قتل على وجه الارض الا وهي قتل قابيل اخاه هابيل ( في القصة ابني عليه السلام) بدافع الغيرة والحسد والحقد وحب الذات ، اذ تملكت نوازع الشر الاخ الاكبر ( قابيل ) فتطوعت نفسه قتل اخيه فقتله ( المائدة /30 )ليحل اول اصرة اخوة بشرية ، وهكذا النفس البشرية اذا ما تسربلت هذه الصفات الشريرة وسيطرت عليها لا تبالي بان تهلك الحرث والنسل ولا تكترث باي رابط او نسب كان حال ( قابيل ) .
ونقرأ قصة اخرى يقصها لنا القرأن الكريم قد خلدت بخلوده ، وهي قصة ( اصحاب الخلود ) ، وهم ثلة من اليمين امنوا بالنصرانية ولم يتبعوا دين اليهودية فحوربوا من لدن حاكم الجور اليهودي الذي اجبرهم على ترك دينهم فأبوا الا اصرارا فامر احد قادته بان يحفر لهم اخدودا ويضرم فيه النيران ، ويلقيهم فيه عقوبة على عصيانهم وتمردهم على ذلك الطاغوت ودينه .
فاضحوا شهداء المبدأ والعقيدة ورمز من رموز الاباء والتضحية ، فبينت تلك القصة بشاعة الظلم والتسلط والتعدي على الحريات والمعتقدات ، وان المؤمن الحق لا تزعزعه الشدائد او قساوة الظالمين ووحشية الطغاة ، ولا تميد به عن حقه ومبدئه ، لانه المنتصر في نهاية المطاف ، وان جاد بنفسه وضحى بمهجته .
وهكذا يسير بنا النهج القصصي القرأني من قصة الى اخرى وهو يرصد الاحداث بشكل دقيق كاشفا عن مكامن النفس البشرية وصراعها الداخلي مع نوازعها واهوائها من جهة ، ومع واقعها الخارجي الدروس والعبر ، وهو الهدف الذي استذكرت لاجله وامرنا بقراءتها ليل نهار ، قال تعالى ( فأقصص القصص لعلهم يتفكرون ) ( الاعراف / 176 ) ، وقال تعالى ( لقد كان في قصصهم لعبرة لأولي الالباب ) ( يوسف / 111 ) وبعد ان تبين لنا ان استذكار الحدث الفادح مهما تقادم او تطاول به الزمان انما هو سيرة عقلانية ونهج قرأني يتضح الجواب عن السؤال الذي بدأنا به حديثنا ، فنحن نستذكر عاشوراء الحسين ونجدد ذكرها كل عام لنستلهم الدروس والعبر من تلك الملحمة الخالدة ، نستذكر عاشوراء لنستحضر الواقع المرير للامة الاسلامية آنذاك عبر انتكاسه الضمير الانساني وغياب الارادة وانتشار وباء التقاعس والتخاذل وعدم الشعور بالمسؤولية ودبيب الجور والفساد ليقوض اركان الاسلام ويطفئ نوره ، فما كان من ريحانة المصطفى وسليل النبوة الا ان يفجر دمه ليقوض الضمير من سبات عميق .
ليندل منه جديب الضمير باخر معشوسب ممرع ويحرك الهمم ويعيد للامة ارادتها التي استليت وليزهق الباطل ويمحق الطاغوت الذي كشر عن انيابه ويبدد سحائب الظلام بعد ان تحول دمه الشريف زيتاً في مشكاة النور وهو المصباح في الزجاجة ، وقد وصفه جده رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من قبل فقال : ( ان الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة ) فاضحت عاشوراء السفر الخالد الذي كتب حروفه من نور يروي ظمأ الانسانية العطشى ويمد الاجيال بأروع الدروس والعبر وابهى صور البطولة والاباء التي تجسدت على ارض كربلاء فنجد دروسا في التضحية والاباء ورفض الذل والخنوع شعارها ( هيهات منا الذلة ) .
ودروس في الحرية ورفض الاستعباد شعارها ( والله لا أعطيكم بيدي اعطاء الذليل ولا اقر لكم اقرار العبيد ) ودروس في بسط العدل والاصلاح في المجتمع ومحاربة الجور والفساد وشعارها ( انما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي )
ودروسا في السماحة والكرم والشجاعة والتحدي والنبل والعزة والكرامة والغيرة والصبر والثبات على المبدأ والصدق والوفاء والنصيحة حتى الى الاعداء .
ونستذكر عاشوراء المأساة والفاجعة ، عاشوراء الدمعة واللوعة ، وفيها تعرض الحسين الذي ليس على وجه الارض ابن بنت نبي غيره ، وولده واخوته وبنو عمومته واصحابه وانصاره الى امضى وابشع جريمة عرفتها البشرية ، من قتل مروع وتقطيع بالسيوف وتمزيق بالرماح والنبال وخسة ووحشية لم يسلم منها حتى الطفل الرضيع ، ثم النهب والسلب للاجساد المضرجة بالدماء والمقطعة بالسيوف والنساء المروعة ، واخيراً سبي النساء والحرم واقتيادها من بلد الى بلد ، وقد قطعت رؤوس الضحايا ورفعة على الرماح وسارت امام ركب النساء المسبية ، جريمة يندى لها جبين الانسانية ، جريمة قد اقشعر لهولها اضلة العرش مع اضلة الخلائق وبكتها السماء والارض ومن فيهن ، وهكذا تفيض عاشوراء بالدروس والعبر التي يعجز اللسان عن ذكرها والفكر عن الاطاحة بها .
كل ذلك نقرؤه في سفير عاشوراء الذي عطره ابو عبد الله الحسين ( عليه السلام ) بعبق الشهادة ، وكساه بحلية الخلود الابدي والتجدد الحيوي بمقولته الشهيرة حينما رفض مبايعة يزيد الخنا والفسوق ( مثلي لا يبايع مثله ) تلك المقولة التي كسرت طوق الزمن فصارت سنة كونية خالدة ، وصرخة رفض مدوية في وجوه الطاغوت في كل عصر بأن مثل الحسين لا يبايع مثل يزيد ابدا حتى قيام الساعة ما دام كل يوم عاشوراء وكل ارض كربلاء .
|
|
|
|